شعاب داروين المرجانية

الفصل الرابع والأربعون
شعاب داروين المرجانية
دخلت أشعة الشمس من النافذة الجانبية للسيارة من طراز تويوتا على دفعات متوالية
وكأنها نبضات من إنارة، إعتام، إنارة، إعتام، إنارة … ضيقت فاندا عينيها. نظرت إلى
الأمام مجهدة. تعدى مؤشرعداد السرعة المائة والثلاثين، بينما الإطارات الشتوية تضرب
أسفلت الشارع، وصوت أناستازيا ينساب من المذياع، أدارت فاندا الزر لترفع الصوت.
المتجه إلى فرانكفورت. لا اختناقات A وعند تقاطع جامباخ أخذت الطريق السري 5
مرورية، استراحت فاندا حين لم يَرِدْ طريقها في نشرة أخبار المرور. فيما عدا بضع
عربات نقل تسد الحارة اليمنى، كان الطريق مفتوحًا مبشِّرًا أنها ستصل في الموعد.
منذ لقائها بتيد بدأت تشعر أن الخناق يضيق حولها تدريجيٍّا. لم يكن بوسعها
الهروب ولا التصرف وظلت كالمشلولة، ورفضعقلها أن يجد فارقًا في السبب وراء ذلك،
هل يرجع إليها أم يرجع إلى بيئتها المحيطة التي باتت تشعر أنها تقصيها باطراد.
لقد أعلنت الزميلة العاملة في قسم علوم الفيروسات بصراحة، أمام باب مدخله
الذي ظل موصدًا معزولًا عن كل ما حوله، أن الزميل في غاية الانشغال، وسيتصل هو
بها بمجرد أن يتوفر لديه الوقت. لم تصدِّق فاندا أي كلمة مما قالت. ثم ذلك الأمر
مع الرئيس؛ فمنذ عودته من الإجازة لا يتواصل شتورم معها إلا عبر السكرتيرة التي
لم تُرِدْ أن تحدِّد لها أي موعد معه قبل بداية فبراير. مع توماس أيضًا لم يَعُدْ يتيسر
الحديث؛ إذ ظل يتحاشاها بعد الطريقة التي غادرت بها ليلة رأس السنة. وأندرياس
عنده امتحانات، على الأرجح أنها أخافته هو أيضًا. بيتر سنايدر أكَّد لها ما لمَّح به تيد
حول طموحات المخابرات الأمريكية، لكن لم تتمكن من الوصول إليه بعد هذا. ماري
للأسبوعين القادمين، حسب الرد الآلي على البريد الإلكتروني، « خارج المكتب » كامبل كانت
علاوةً على ذلك، رأت أن يوهانيس وزابينة يجفلان ويُؤثِران الصمت بمجرد أن تتلفظ
تأثير اللوتس
هي بكلمة نانوسنيف؛ ولهذا شعرت فاندا أن الكل يتحاشاها، وكأنها أصيبت بالجذام،
لم تَعُدْ تتواصل إلا مع رودي الذي لا يوصلها إلىشيء؛ لذا فقد آن الأوان أن تجد لنفسها
دعمًا مستقلٍّا.
عند تقاطع باد هومبورج أخذت التفريعة المؤدية إلى أوبرأورزيل. كلما فكرت في
هارتموت فيبيلينج رأت صورة رجل ضئيل البنية أمام عينيها، ذي وجه نحيل وشعر
أشقر قمحي كثيف مقارنةً بمَن في عمره، ذي عينين في زرقة الماء تنظران عبر نظارة
معظمة كبيرة الحجم. آنذاك كان دائمًا ما يرتدي قميصًا أبيض عليه ربطة عنق برسم
حيوان. لم تَرَ فيبيلينج منذ ما لا يقل عن ست سنوات. أنَّى لها أن تبدأ معه الحديث
مباشرةً؟ في تلك الأثناء كان قد تقاعد. لقد كانت سكرتيرته القديمة من معهد علم
الحيوان التابع لجامعة مونستر التي وصلت إليها فاندا على الرقم القديم سعيدة جدٍّا
بسؤالها وأعطتها أخباره، كما أوضحت لها بودٍّ أن الأستاذ عاد إلى بيته القديم الذي لا
يبعد عنها كثيرًا. لقد آثَر الأستاذ المتقاعد هارتموت فيبيلينج أن يمضيسنوات تقاعده في
كونيجزشتاين الكائنة في مرتفعات تاونوس، وأعطت فاندا رقم هاتفه.
ما زالت «؟ آه، أنت السيدة الشابة التي كانت ترتدي جوارب عليها نقش الكنغر »
لديه تلك الضحكة الطفولية.
كان على حق، آنذاك تملَّكتها رغبة ارتداء جوارب عليها نقوش حيوانات. معقول أنه
لا يزال يذكر ذلك رغم أنها لم تكن تدرس عنده أصلًا؟ الصدفة وحدها جعلته يُشرِف
عليها في الفصل الدراسي الأول لها بالجامعة، وها قد ثبت أنها كانت صدفة سعيدة أن
يندرج اسمك في آخر كشف الأسماء المرتبة هجائيٍّا مثل فيبيلينج، الذي آوى كل المبتدئين
من أول تابيرت وحتى فونديرليش تحت جناحه فصلًا دراسيٍّا كاملًا، وسرعان ما تحولوا
إلى دائرة صغيرة تتحلق حول الأستاذ، تلتقي بانتظام، تنظم جولات في الغابة، أو زيارات
إلى حديقة الحيوان، أو تذهب لتناول البيتزا وتدخل في مناقشات قد تمتد طوال الليل
حول الإله والعالم، وتحكي عن أحلامها الوظيفية، إلى أنْ باعَدَ بينهم أخيرًا وفرَّقهم واقع
الدراسة وإيقاعها اليومي. وكلما عادت فاندا بفكرها إلى الوراء، إلى ذلك الوقت، شعرت
أن روح المغامرة تعود إليها متدفقة مثل يوم ربيعي دافئ، وتعيد إليها اليقين بأنها
ستحقق كل ما تصبو إليه. في السنوات اللاحقة لم تَعُدْ ترى فيبيلينج إلا لمامًا؛ تلقاه لقاءً
خاطفًا في طرقة أو في احتفالية كبرى، كانت سمعته تسبقه على أنه مدير معهد تتسم
شخصيته بالمغامرة والحكمة. أول أمس تجنبت أن تلحَّ عليه على الهاتف، لكنه سرعان
332
شعاب داروين المرجانية
ما استوعب أن ما يشغلها أمرٌ مهم فدعاها إلى منزله. صحيح أنه مشغول نسبيٍّا، لكن
في وسعه أن يفسح لها ساعة من وقته إن كانت تكفيها. أسعدها أنها ستلقاه ثانية.
عند أوبرأورزيل تركت الطريق السريع عند مخرج كونيجزشتاين، وبعد بضع
كيلومترات وصلت إلى منطقة مامولزهاين. كان من السهل رؤية فيلا فيبيلينج من
الشارع، وهو لم يكن يبالغ حين قال إنها أكبر أرض على حافة الغابة. صفت سيارة
يوهانيس على الممشى. كان الجرس عبارة عن حوض من النحاس في منتصفه زر، دقت
الجرس ففتح هارتموت فيبيلينج الباب بنفسه. نفس العينين الزرقاوين زرقة الماء هما
اللتان تطالعانها الآن بفرح وترقب.
لمع بريق فضيعلى شعره، عاودت فاندا الذكرى ثانية، تذكرت أنه حتى آنذاك كانت
أرنبة أنفه منحرفة قليلًا نحو اليمين، وكأنه يتشمم رائحة آتية من تلك الناحية على
نحو مستمر، بينما هو مثبت النظر على محدثه. تلك اليقظة التي توحي بسيطرته على
كل الاتجاهات، كانت تقوي من حضوره الطاغي الذي يتدبر به أمر محاوره أيٍّا كانت
حالته. اليوم يرتدي بنطالًا من الجينز وبلوفر عالي الرقبة بلون الأزرق الفاتح، وسترة
من الجلد. نظر إلى الخف الفرو الذي يرتديه في قدميه وبسط يده كما لو كان يعتذر.
ضحكت فاندا. «. لقد تعاركَتْ معي زوجتي، لكن لم تكن بي رغبة لأن أبدل ثيابي »
كان الأزرق الفاتح يناسبه كثيرًا، لكن حياءها منعها أن تقول له ذلك، وحين أرادت أن
تخلع حذاءها أشار إليها ألَّا تفعل.
فأصر على رؤية «. خسارة. هذه المرة موظ كندي » : قالت وهي تضحك بخبث
جواربها.
أدفأت الأرضية المكسية بالقرميد الرمادي قدمَيْها. قادها فيبيلينج إلى غرفة مكتبه.
أضفت السجادة فاتحة اللون تباينًا لطيفًا مع لون الخشب الداكن للمكتب القديم الذي
لم يكن عليه سوى جهاز كمبيوتر محمول. أشار إلى ركن للجلوس إلى جوار النافذة،
غطست فاندا في واحد من الكراسي الحمراء الصغيرة. فجلس هو على الآخَر إلى جوارها.
كان الماء يغلي بصوت مسموع في إناء صنع الشاي الموضوع على منضدة المشروبات.
تفضلي، قدِّمي لنفسك ما تشائين، » : قال وهو يناولها طبقًا من البورسلين الرقيق
«؟ أم تُرَاك تفضلين قهوة
هزت فاندا رأسها ووضعت الفنجان أسفل حنفية الشاي المطلية بالفضة. كان
فيبيلينج يرنو إلى الغابة.
333
تأثير اللوتس
تأتي الغزلان نحو الساعة الثالثة والنصف، واحدة تلو الأخرى. تخرج بحذر بالغ »
من حماية الأشجار. أحيانًا يصل عددها إلى خمس إناث. أستمتع بهذه المسرحية كل مرة
أكون فيها بالمنزل. ما زلت كثير السفر. هل تعرفين، نحن الأساتذة نزدهر حقٍّا بعد أن
«. نتقاعد، فأخيرًا تخلصنا من الواجبات الإدارية الثقيلة، ونستطيع أن نفعل ما يسعدنا
لكن لا تحكي لزوجتي أيٍّا من ذلك، في وقت ما ستفهم » : نظر إليها نظرة تآمرية وقال
وحدها أنني يمكنني أيضًا أن أشذب العشب. وعلى كل حال اكتشف أولادي أن الجد
إذن أنت الآن في ماربورج مدينة الشعراء » : فكر قليلًا ثم قال «. جليسة أطفال ممتازة
«. والمفكرين: هايدجر، باستيرناك، بين، كاشنيتس، وكان بها أيضًا بعضالعلماء الأذكياء
عليَّ أن أعترف أني لم أذهب إلى هناك قطُّ، وكما » : رمق فاندا بنظرة مستمتعة وقال
احكي لي: فيمَ تعملين الآن » : رفع حاجبيه وتساءل «. سمعت فعملك يضم الآن جانبًا طبيٍّا
كان الحديث عن أبحاثها مدخلًا جيدًا، وتدريجيٍّا بدأ خجلها «؟ وكيف يمكن لي أن أفيدك
يتلاشى، وسرعان ما قادها الموضوع إلى سبب الزيارة. حكت لفيبيلينج عما اكتشفته
حول نانوسنيف. ركزت على الحقائق العلمية.
وكأن » : قال وهو يرفع كتفيه فيغوصرأسه بينهما «. علاجات ضد التقدم في العمر »
عندي رؤيتي الخاصة للموضوع: السيطرة » : فكَّر قليلًا ثم قال «. التقدم في العمر مرض
لا تؤدي إلا إلى تكبير المسألة. نظل ننفخ فيها وكأنها منطاد نملؤه بالهواء الساخن، ثم
ويومًا ما سنعاود زراعة » : ابتسم لفاندا من وراء نظارته وقال «. نستكثره على السماء
«. الموت لأننا سنفتقده
ظلت فاندا صامتة لوهلة إلى أن تحدثت ثانيةً، فسيأتي الآن الجزء الأصعب فيما
تريد قوله. أوضحت له أن شتورم يتجاهل آخَر ما وصلتْ إليه النتائج حول نانوسنيف،
ولم يَفُتها ملاحظة أن فيبيلينج كان كثيرًا ما ينظر من النافذة في أثناء حديثهما. توقف
عن الابتسام فرأت التجاعيد الغائرة حول فمه.
ازدردت فاندا ريقها، وفكرت: كان عليَّ أن «؟ هل حضرت إليَّ لتشتكي من رئيسك »
أتوقع هذا. فالمثل يقول: لا غراب يفقأ عين غراب مثله. وأبناء المهنة الواحدة يحمون
بعضُهم ظهورَ بعضٍ.
أنا فقط لم أَعُدْ أثق » ، شعرت أنه فهِمها خطأً «. لا، لا أريد أن أشتكي » : قالت بحذر
في حكمي على الأشياء، ما الخطأ وما الصواب. نانوسنيف يحتوي على مخاطر يرفض
رئيسي أن يعترف بوجودها. هل عليَّ أن أحجب معلوماتي لأن رؤيته للأمور غير رؤيتي
«؟ لها
334
شعاب داروين المرجانية
«. كونكِ عالمة يجعلك مسئولة مسئولية شخصية »
«؟ وهذا يعني »
«. المجال المتاح لكِ للحركة يتناسب مع قوة مَن يحمي ظهر رئيسك »
«. وهذا يتعلق بمصلحته من الموضوع »
حاولي أن تقدِّمي له الموضوع بطريقة يستطيع أن يتقبلها بها. ليس ثمة جدوى »
«… وراء تحدِّيه؛ إلا إذا
«؟ ماذا »
«. لو كنت تسعين وراء التنازع على السيطرة، وهذا ما لا أنصح به »
تصبَّبت فاندا عرقًا. كيف كنت أتوقع أمرًا آخر؟ لا جدوى. كان عليَّ ألَّا أحضر إلى
هنا.
هل تعرفين، هناك طرق متنوعة لتوصيل الحقائق، وهذا » : أكمل بلهجة ودودة قائلًا
يسري أيضًا على معارفنا العلمية، والأمر مرتبط دائمًا وأبدًا بالهدف الذي تسعين إليه. إن
كانت نيتك هي الإضرار برئيسك فهذا ما سيفهمه الآخرون، وستحشدين قوى الآخرين
ضدك، وسينفذون ذلك في صمت مذهل، ولن يفيدك ذلك في موضوعك. أما إن كان
همك هو توصيل معلومة أن التقنية الجديدة تحوي مخاطر محتملة، وأنك تستطيعين
إثبات ذلك بالتجربة المعملية، فستلقين ساعتها آذانًا مصغية. أريد أن أقول إن عليك أن
توضحي موقفك، ولا بد أن تصب حججك في صالحك، وهذا لا يتأتى إلا حين يقتنع
«. الناس بنواياك. لا أحد يترك القيادة لشخص لا يثق فيه
ولكن هذه تحديدًا هي مشكلتي. إن أعلنتُ معلوماتي حول » : ردت فاندا بحماسة
نانوسنيف، فسيدعم ذلك الحكومة الأمريكية التي تبحث في الوقت الراهن عن حجج تمنع
بها الاستخدام المدني لنانوسنيف لتُخْفِيه عن أعين العامة، وتخبئه في المعامل السرية
«. للجيش
«؟ من أين لك بهذه الفكرة الغريبة »
سأكون أنا «. الأمر هكذا فعلًا، فلدي مصادري » : نظرت فاندا في عينيه بثبات
الشيطان لو حكيت له الحكاية كلها، وسيظن أني مجنونة. تنهد فيبيلينج.
إذن في وسعنا أن نستبعد محاولات الانتقام، نحن هنا لسنا أمام عرضمن أعراض »
كان «؟ فأنت لا تريدين الثأر لقضية تظنينها عادلة، أليس كذلك ،« الغضب المقدس »
يرمق فاندا من فوق حافة فنجان الشاي بانتباه. هزت رأسها نافية بحسم.
335
تأثير اللوتس
ربما كان الأمر كذلك في البداية، لكن في هذه الأثناء بدأ الموضوع يحوي ما هو »
«. أكثر
كان شعب الآزتك يعبد ربة الخيلاء. كانوا يُطلِقون عليها » : واصل كلامه قائلًا
الربة التي تتحكم في الضباب، آياوتيوتيل، سيدة الضباب والدخان. هل تعتقدين حقٍّا أن
وظيفتك تخولك السلطة أن تُخْفِي ما تُخْفِين وتعلني ما تعلنين؟ أنت تبالغين في تقدير
«. أهميتك. ليس من حقك التحكم في مثل هذه التطورات
«. لكني أشعر فعلًا بالمسئولية »
نعم بالطبع، فلتبقي إذن على البساط! إن كل محاولة للإمساك بزمام هذا العالَم »
المعقَّد محتومة بالفشل. حين تحاولين ترويض الحصان من الخلف لا تتعجبين إن ظل
«. يتمرد
«. أخشى أني لا أفقه شيئًا في الخيول »
عليك أولًا أن تتحدثي إليه بلطف، وعليك أن تبقي على هذه النبرة الهادئة، سيرتد »
«. أثر ذلك إليك، كل شيء آخَر سيأتي لاحقًا. لا توجد وصفة سحرية
عضت شفتيها؛ إذ لم تكن «… سيؤدي ذلك إلى نبذي، وسيكلفني ذلك وظيفتي و »
تريد أن تحكي له عن جونتر هيلبيرج، لن يكون ذلك مناسبًا في هذا السياق.
بدا أنه لا يزال في انتظار أن تُكمِل حديثها.
«… وصوتي في المجتمع العلمي »
«. عندك حق. الموضوع يتعلق بكيانك »
«. وبمصداقيتي »
وهنا بيت القصيد. الأمر يخصك أنت شخصيٍّا، وماذا عن مسألة » : صاح منتصرًا
«؟ الخداع العلمي
«. عليَّ أن أتأكد من ذلك أولًا، وإلا فلن أستطيع مواصلة العمل »
لكن هذا ما أعنيه أيضًا، لا يمكن الفصل بين المسألتين. حين تصلين إلى شيء »
فعليك أن تجدي الطريق لإيصاله إلى الناس، وهذا يتعلق أيضًا بمدى قابلية مستمعيك
لاستقبال ما تقولينه من معلومات. فالمجتمع العلمي أقل انفتاحًا من عوام الناس فيما
يخص وجهات النظر الجديدة. قد يبدو ذلك عبثًا، لكن الوضع كذلك حقيقة؛ لأنه في
مجالاتنا علاوةً على كل حسنات ومساوئ الطبيعة البشرية، هنالك تنوع من الأفكار
والرؤى والنظريات والعضويات المعدَّلة وراثيٍّا ما يستوجب الحماية. حتى داروين رغم
336
شعاب داروين المرجانية
كان يستخدم في » : توقف فيبيلينج لبعض الوقت، ثم أكمل قائلًا «. عناده كان مناسبًا
تخطيطات رسوماته لشرح نظرية النشوء والارتقاء استعارة الشعب المرجانية. بهذه
الصورة تخطى الفكرة التقليدية التي سادت في العصرالوسيط عن هرمية التطور التي
كان يُعبَّر عنها باستخدام استعارة شجرة الحياة، علاوة على ذلك كان يستخدم استعارة
الشعب المرجانية لقدرة الفروع الحية على الازدهار فوق الميتة، كما أن هذه البنية تسمح
بملاحظة الأنواع الحية والأخرى المنقرضة بنظرة واحدة كل على حدة. كان داروين غارقًا
في هذه التجربة الذهنية، حين وصله مقال من الباحث الشاب والاس الذي استطاع
ارتشف «. أن يصور نظرية التطور بشكل مقنع جدٍّا على مثال شجرة البلوط السامقة
وبدافع من قلقه على » : فيبيلينج بعض الشاي، ثم أعاد الفنجان ببطء وواصل الكلام
ريادة أبحاثه في نظريات الارتقاء، اضطر داروين لقطع أفكاره التي من شأنها تشكيل
المستقبل. كان عليه أن ينشر نتائج أبحاثه قبل منافسه، بالتالي لجأ لاستخدام الاستعارة
المألوفة لشجرة الحياة، رغم أنه فكريٍّا كان قد تخطَّى هذه المرحلة بخطوات. على أية
حال، كانت رسوماته تشبه الشجيرات المتفرعة مثل الشعاب المرجانية، وكلما جمع حججًا
تدعم نموذج الشجرة الذي لم يكن داخليٍّا مقتنعًا به، ازداد تورطه في تناقضه الذاتي
الداخلي. كان حذرًا في صياغة أفكاره؛ ولهذا ظل الانقسام الذي ما زلنا نشعر به اليوم
«. في كتاباته بين الصورة واللغة
«. أنا لا أفهم شيئًا » : غمغمت فاندا
أنت في أزمة يعرفها جيدًا كلُّ الباحثين في العالم. تشعرين أنك مضطرة لتوصيل »
«. معلومات، لكنها لا تزال منقوصة بسبب ضغط الوقت
«. تلك هي الحال » زفرت فاندا
«؟ لكن هذا النقل الوراثي بين حاملات النانو والفيروس موجود فعلًا »
«. بالتأكيد »
«؟ لماذا لا تبنين عليه »
«؟ وبرأيك هل هذا كافٍ »
إن كان الوضع كما تقولين، فلا يستبعد التفكير في هذه المادة في التطبيقات »
العلاجية. هذا ما يمكن قراءته من النتائج التي توصلت لها. بالمناسبة لم يكن داروين
هو الوحيد في عصره غير الراضيعن استعارة الشجرة، لم يكن متأكدًا من أفكاره، لكنه
في الوقت نفسه كان يريد أن يضمن لنفسه أكاليل الغار. كان هذا دافعه هو. أما أنتِ
337
تأثير اللوتس
أشار من النافذة. خرجت غزالتان إلى المنطقة الخالية من الأشجار، «. فوضعكِ مختلف
كانتا تنقلان خطواتهما بحذر وكأنهما تتبعان وصية خفية بألا تطأ أقدامهما شيئًا. وفي
صمت جلس كلٌّ من فاندا وفيبيلينج متجاورين ينظران من النافذة. في وقت ما دخلت
زوجته إلى الغرفة كي تدعو فاندا لتناول العشاء.
اضطرت فاندا للكذب؛ فلم تكن تبحث لدى هذين «. للأسف، أنا مدعوة سلفًا »
الشخصين الودودين عن علاقات شخصية، وفي قربهما كانت تشعر أنها خرقاء ومتصلبة.
قال فيبيلينج وهي تشكره مودِّعة. لقد «. أعلميني بما يحدث إن وجدتِ فرصةً »
حصلت على ما كانت تحتاج إليه، وأيضًا على فكرة عن الكيفية التي تواصل بها العمل.
وعندما خرجت، كان الظلام قد خيم بالخارج.
وبعد ساعة كانت قد وصلت إلى ماربورج فمرت على المعهد، قامت بتحميل بيانات
كثيرة وأخذت كومة من المقالات العلمية المنسوخة تحت ذراعها. كان المذياع يصدح من
إحدى الغرف. ألقت فاندا نظرةً من النافذة المستديرة في الباب. كانت أولريكه — باحثة
الدكتوراه التي تشرف عليها أستريد — جالسةً على منضدة التعقيم تعمل مستخدمة
الممصات. كانت مستغرقة في عملها لدرجة أنها لم تلاحظ وجود فاندا، وحينما كانت
تمشي متوجهة إلى الجراج رأت الزميل المتخصص في علوم الفيروسات. كان يُغِذُّ الخطى
تجاه محطة الحافلات. تعرَّف على فاندا وأراد أن يواصل السير لكنها سبقته.
ليس ثمة حافلات الآن. تعالَ » : جفل وظل واقفًا وقالت هي «؟ السيد كانتيرات »
ابتعد كانتيرات عدة خطوات عنها ثم استدار، تطاير «. معي، سأوصلك معي إلى المدينة
معطفه المفتوح مع تيار الهواء وهو يتحرك مقتربًا من فاندا ببطء، وما إن أصبح واقفًا
أمامها مباشرة حتى لاحظت علامات الندم على وجهه، وكان يحمل حافظة أوراقه أمام
صدره مثل الدرع الواقية.
«. أنا آسف » : قال متلعثمًا
سارعت فاندا إلى السيارة «. تعالَ، تفضَّلْ أولًا بالصعود إلى السيارة » : ردت بودٍّ
وفتحت القفل المركزي عن بُعْد فأصدر صوتًا. احتاج كانتيرات بعض الوقت إلى أن
استقر بملفاته داخل حزام الأمان. اختارت فاندا الطريق القريب الهابط إلى وادي اللان.
لقد سُحِبت المسألة » ثم تحوَّل ناحيتها «. في الحقيقة عليَّ ألَّا أخبرك هذا » : بدأ بالقول
نظرت فاندا إليه متسائلة. «. مني، وأرُْغِمتُ على الصمت
«. موضوع يخص الرئيس »
338
شعاب داروين المرجانية
«؟ لكنك تعرف النتيجة »
كلا، نتيجة التحليل سحبها رئيسي مباشرةً، لم أَرَ سوى أن السيد شتورم دخل إلى »
«. مكتبه بعد ذلك بوقت وجيز
«؟ أما زلت تذكر متى حدث ذلك »
رغم البرد الْتَمعت «. قبل عيد الميلاد بيوم أو يومين. عليَّ أن أراجع التاريخ الدقيق »
أومأت فاندا برأسها. «. يؤسفني حقٍّا أني كذبت عليك » : حبات عرقٍ على جبينه، وهو يقول
«. موضوع يخص الرئيس، أتفهم ذلك »
كان يمكن أن تحصلي على النتائج يوم عيد الميلاد كما وعدتك. عليك أن تصدقيني »
اشتهر عن كانتيرات الدقة والثقة، ولهذا كانت قد طلبت أن يجري هو شخصيٍّا «. في هذا
التحاليل.
تعجبت أنها ظلت على هدوئها التام. كان هذا إذن هو «. نعم، بالتأكيد أنا أصدقك »
سبب الصمت؛ شتورم يعرف النتيجة، لكنه سيحتاج الأكواد الرقمية حتى يتمكن من
تفسير البيانات، ربما لم يكن يريد بتاتًا أن يعرف النتيجة. وعلى كل حال، فإنه يعرف
الآن الجين الذي انتقل من حاملات النانو إلى الفيروس، ومن الفيروس للفئران. وفجأةً
تسارعت دقات قلبها، لقد كانت نتيجة عينة النسيج المأخوذة من مخ جونتر هيلبيرج
بين النتائج.
الأمر لا يستحق هذه الدراما. العينات لا يعنيني منها سوى » : فسمعت نفسها تقول
نظر إليها متفاجئًا، فأضافت موضحة وهي تمعن النظر في الطريق العريض «. واحدة
رجاها أن تتوقف عند محطة فيليبسهاوز، «. لأنها تخصني أنا شخصيٍّا » : المنبسط أمامها
وساعدته فاندا على الخروج من حزام الأمان.
«. ابعثي لي برقم هذه العينة. سأرى ما يمكنني فعله » : وقال قبل أن يغادر السيارة